النقد بين الإصلاح والهدم، لوزير الأوقاف
بداية يجب أن نفرق بين النقد الذي يعني تمييز الجيد من الرديء ، والنقض الذي يعني الهدم ، فالأول مأخوذ من نقد الذهب والفضة أي تمييز الصحيح من الزائف منهما ، والثاني وهو النقض فمعناه الهدم ، يقال : مات فلان تحت الأنقاض ، أي: تحت بقايا الهدم .
على أن النقد في اللغة له معنيان: أولهما : هو العيب والذم والقدح ، ومنه قول أبي الدرداء (رضي الله عنه) : إن نقدت الناس نقدوك وإن تركتهم تركوك ، أي إن عبتهم و قدحت فيهم عابوك وقدحوا فيك ، فكلك عورات وللناس ألسن .
أما المعنى الثاني وهو النقد المنصف فيعني التمييز بين الحسن والقبيح ، على أنه قد يكون مدحا واستحسانا ، وقد يكون ذما واستهجانا ، وقد يجمع الناقد بين بيان المحاسن والمثالب .
والنقد قد يكون ذاتيا أو انطباعيا ، وقد يكون علميًا أو منهجيًا أو موضوعيًا ، فالأول قائم على مجرد الانطباع الأولي ، كأن تقرأ مقالا أو تسمع خطبة أو كلمة أو حديثا أو ترى لوحة فنان فتعجب بها دون أن تقف على تفاصيل الفن أو وصف أسباب الجودة ، وقد لا تعجب مع عدم الوقوف على التفاصيل الفنية التي هبطت بالفن عن مستوى الجودة .
أما النقد العلمي والمنهجي والموضوعي فهو القائم والمبني على أسس علمية وموضوعية وفنية وهذا النقد يحتاج إلى ثلاثة مقومات أساسية :
أولها : الأدوات المتصلة بالصناعة أو الفن ، فناقد العمل الأدبي يحتاج إلى الإلمام بعلوم اللغة من النحو والصرف والعروض وعلوم البلاغة والنقد وأدب الكُتَّاب والإلمام بشيء من الثقافة العامة في سائر العلوم الإنسانية والاجتماعية والنفسية وفنون التاريخ والحضارة والعمران وما إلى ذلك ، والناقد الرياضي أو الاقتصادي أو السياسي أو الفني أو التشكيلي لابد أن يلم إلماما كبيرًا بأصول الصنعة التي يتعرض لها ، وإلا كان نقده سطحيًا يحتاج إلى من ينقده و يفنده وربما يتعرض له من يبين قصوره وقد يسفهه .
الأمر الثاني الذي يجب أن يلم به الناقد هو الخبرة والدربة و الملكة ، ألا ترى أن قد تسمع إلى قارئين أو خطيبين مجيدين متميزين غاية التميز ، أو تقرأ لكاتبين من كبار الكُتَّاب مقالين عظيمين مستجمعين لكل أدوات الصناعة ، أو تتعرض لتحليل عملية فنية في غاية الدقة والإبداع ، غير أنك قد تميز بينهما بشئ يدرك ولا يوصف ، كما قال الآمدي : ألا ترى أنك قد تجد فرسين نجيبين بينهما من الاشتراك في علامات العتق والنجابة والقوة والعراقة ما يصعب على اللبيب التفريق فيه بينهما ، غيرأن أهل الخبرة بالخيول يقدمون أحدهما على الآخر ، وكذلك في تقييم لوحات الفنانين وأعمال المبدعين ومواصفات الإبداع والجمال والمعمار وسائر شئون الحياة والصناعات ، مما يجعل من الخبرة والممارسة شيئا آخر إلى جانب امتلاك أدوات الصناعة .
أما أن يقتحم مجال النقد من لا يمتلك لا الخبرة ولا الحاسة ولا أدوات الصناعة والفن أو مؤهلات النقد ، فتلك الطاقة الكبرى التي تؤخر ولا تقدم ، وتفسد ولا تصلح ، وتسيئ للناقد قبل المنقود .
الأمر الثالث والأهم هو : الإخلاص والتجرد والبعد عن الأهواء وتصفية الحسابات ، فإن الوقوع في آفات الهوى والميل وعدم الإنصاف طامة كبرى يجب الترفع عنها ، وذلك أن بعض النفوس المريضة لا تعرف سوى الهدم طريقا ، على حد ما قرره الإمام علي بن عبد العزيز الجرجاني في مقدمة كتابه ” الوساطة بين المتنبى وخصومه ” حيث ذكر أن أهل النقص فريقان ، فريق يعمل على جبر نقيصته وستر عورته ، وهذا أمر حسن لأنه قد شغل بأمر نفسه ويعمل على إصلاح حاله وشأنه ، أما الفريق الآخر من أهل النقص فقد قعد به عن الكمال عجزه أو اختياره ، أي ضعفه أو كسله ، فلم يجد شيئا أجبر لنقصه وأستر لعورته من انتقاص الأماجد وحسد الأفاضل ، ظنًا أن ذلك قد يجرهم إلى مثل نقيصته أو ينزل بهم إلى مستوى درجته .
وقد امتهن بعض الناس حتى في العصور المتقدمة المدح والهجاء صنعة يتكسبون بها ، وإذا كان التكسب بالمديح والثناء أمرًا معروفا حتى لدى شعراء الجاهلية فيمن عرفوا بمدرسة الصنعة أو التكسب بالشعر كزهير بن أبي سلمى والنابغة الزبياني وغيرهما ، فإن هناك من عُرف بالتكسب بالهجاء حتى في عصر صدر الإسلام كالحطيئة الذي كان يبتز الناس بهجائه وتعرضه لهم ، حتى أن الخليفة عمر ( رضي الله عنه ) هدده تهديدًا شديدًا إن لم يكف عن أعراض الناس ، فقال : إذن يموت عيالي يا أمير المؤمنين ، فاشترى منه عمر أعراض الناس بأربعين ألف درهم على ألا يتعرض لهجاء أحد ، فكف الحطيئة عن هجاء الناس طوال خلافة عمر ثم عاد إليه بعد وفاته .
وكل هذا لا يمكن أن يصنع حضارة حقيقية أو يقدم للمجتمع الكفاءات التي تستحق الثناء والتقدير الحقيقي ، بل إن هذا النقد قد يسهم في الهدم ، أما النقد الحقيقي المتجرد الموضوعي المبني على أسس علمية وعلى الخبرة والدربة والممارسة وكثرة التحصيل وعلى الإنصاف ، بأن تقول لمن أحسن: أحسنت ، ولمن أساء – بالأدب – : أسأت وقصرت ، وربما تضع يده على وجه الخلل وعلى طرق الإصلاح ، فهذا هو النقد الهادف الذي يبني ولا يهدم ، وينصف ويشجع ، وفي الوقت نفسه يبين ويحذر .
فإذا كانت القيادة مسئولية وأمانة ، فإن ممارسة النقد والتحليل أيضا مسئولية وأمانة ، وكلنا مسئولون أمام الله (عز وجل) ، كل عن الأمانة التي ولاه الله إياها ،كما أننا مسئولون عن بناء وطننا ، والعمل على نهضته ورقيه من خلال سبل البناء والإصلاح لا الهدم والنقض ، ولا النفعية أو حب الظهور ، على أن الغالبية العظمى صارت تميز الغث من السمين ، وصدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم : ” فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ” (الرعد : 17).